السياسة المالية وجوهر النمو الاقتصادي
يمكن اعتبار تدوينة هذا الشهر امتدادًا لتدوينة شهر أغسطس (ميزانية الدولة: التخطيط والواقع)، حيث ناقشنا ميزانية الدولة وقمنا بشرح تفاصيلها المهمة، وعرجنا في نهايتها على خطط الدولة في مواجهة العجز المالي، ويأتي دور الحكومات في ذلك من خلال التحكم بالسياستين: المالية والنقدية.
لنقم بتعريف السياسة المالية أولا. ببساطة، هي الإجراءات التي تتخذها الحكومات ممثلة
بوزارة المالية، للتحكم بمستويات الإنفاق والإيرادات الحكومية، بالتركيز على
المصروفات، والضرائب، والدين العام، لتحقيق أعلى مستويات التوازن الاقتصادي وتحسين
توزيع الثروة والدخل في المجتمع. تمضي السياسات المالية عكس حالة الاقتصاد؛ وذلك
في محاولة لتدارك الوضع الاقتصادي للدولة، لأننا لا يمكن أن نمضي في حالة ازدهار
مستمر دون حدود فذلك سيرفع معدل التضخّم، كما لا يمكننا أن نمضي في حالة ركود
مستمر، فذلك موت الاقتصاد ونهايته. الحل يكمن في المحافظة على أداء الاقتصاد بوضع
حدود تجعل حجم الإنفاق والإيرادات مستقرًا، والمتغيرات الاقتصادية في اتزان
(التضخّم، سعر الصرف، نسبة الفائدة، ...)، وأغلب هذه المتغيرات يعمل من أجل
استقرارها البنك المركزي بالسياسة النقدية. بناء على ذلك، نوضح أنواع السياسات
المالية، وهما: السياسة المالية التوسعية، والسياسة المالية الانكماشية.
بالنسبة للسياسة
المالية التوسعية (Expansionary
Fiscal Policy) أو التسهيليّة، فإنها تطبق في حالة الركود، كما هو الحاصل الآن
في بلدنا، حيث حرصت الدولة على إعداد خطة التوازن المالي، بالتحكم في الإنفاق من
خلال: خفض الموازنة الجارية بنسبة 10%، وخفض الدعم للشركات الحكومية، وخفض
الموازنة الإنمائية. وبتنشيط الإيرادات من خلال: توسيع الوعاء الضريبي، تسريع
برنامج التخصيص، تعديل الرسوم على الخدمات. الأمر الذي يحصل بالعادة في السياسة
التوسّعية هو أن الإنفاق يكون أكبر لدعم الاقتصاد، لكن الحكومة قلّصت الإنفاق من
جهة، وضخّت التمويل في جهات أخرى من شأنها أن تدعم هذا التوجه في إعادة هيكلة
الإنفاق. وربما لاحظنا أن قدرتنا على التحكم بالإنفاق تكون من خلال إنقاصه فقط،
على عكس التحكم بالإيرادات، الذي يمكّـننا من خلق موارد جديدة ومصادر دخل مستدامة،
من خلال الاستثمار في الطاقة النظيفة، والتكنولوجيا والابتكار، والتسويق السياحي؛
لأن فرض الضرائب ما هو إلا أسهل حل غير مستدام.
أما السياسة المالية
الانكماشية (Contractionary Fiscal Policy) أو
التشدديّة، فتطبق في الحالات التي ينمو فيها الاقتصاد بشكل تصاعدي قد يكون حادا،
وفي نفس الوقت ترتفع فيه السيولة في أيدي الأفراد والمؤسسات. فتقوم الحكومة مثلا بفرض
الضرائب وإعادة توزيع الإنفاق، بينما يقوم البنك المركزي من جهته ببيع السندات
الحكومية، ليقبض على جزء من السيولة ويقوم بمعادلتها، ويعرف ذلك بـ (Open market
operations). الهدف من ذلك هو إرجاع الاقتصاد إلى نقطة التوازن، وجعله يمضي
وفق الخطط الموضوعة لتحقيق أفضل أداء واستدامة.
كنت أقرأ ورقة بحثية عنوانها (السياسات الكلية
وإشكالات النمو في الدول العربية)، من إعداد أ. عامر ذياب
التميمي، رئيس الجمعية الاقتصادية
الكويتية سابقًا، وطُرح في الورقة سؤال ينص على التالي: "هل نسلم بأن محددات النمو
في الدول العربية تقع خارج نطاق السياسات الاقتصادية؟"، أي هل السياسات
الاقتصادية، بما فيها السياسة المالية التي تتخذها الدول العربية لا تؤثر على
خططها للنمو، أم أن هناك خللا في صياغة السياسة ووضع آلياتها، خصوصا بما يتعلق بدور
القطاع الخاص، والمؤسسات الإنتاجية، وطرق التحفيز الاقتصادي؟
من وجهة نظرهِ،
لم تتمكن البلدان العربية من صياغة أنموذج اقتصادي يمكن أن يقتدى به في الدول النامية،
وقد يعزى ذلك لعوامل عديدة منها ما هو سياسي، واقتصادي، واجتماعي. وأردف أن أصحاب الشأن
في بعض البلدان العربية تبنّوا سياسات اقتصادية في ظل إمكانات محدودة، حيث رأوا أن
متطلبات التنمية وإنجازها في وقت قياسي لن يتحقق بالتعويل على القطاع الخاص وتردّده
في إنجاز المشاريع، والتي قد لا تتمتع بالجدوى الاقتصادية، حيث كان الهم الأساسي للسلطات
السياسية هو تحقيق تنمية تعتمد على التصنيع الثقيل ورصد الأموال اللازمة للتكاليف الرأسمالية
لتلك المشاريع. وهنا أنوّه على أن فكرة التعويل على القطاع الخاص التي طرحت في الورقة
تناسب فترة بدايات النهضة للدول العربية. أما بالنسبة لليوم، فإن القطاع الخاص
شريك حقيقي في التنمية، بل هو من يجب عليه قيادة الاقتصاد وتحريكه.
لذلك فإن النجاح في السياسة المالية ينبع من المبادرة
في تحديد المسار الاقتصادي، وإضافة الطابع العربي على السياسات الاقتصادية في البلدان
العربية، أي أن نبني السياسة على مقاساتنا، لا على المقاسات الجاهزة للاقتصادات
الأخرى. كما يحتاج نظرة أوسع لصناعة القرار الاقتصادي والمالي، وتكاملا حقيقيا بين
الحكومة والمواطنين، الأمر الذي يعزز الثقة ويسهم في إنجاح السياسة. كما أن تنشيط
الإيرادات أمر مهم، من خلال السماح للمزيد من الاستثمارات الأجنبية بالدخول،
وتنويع المحفظة الاستثمارية للدولة؛ من خلال البحث عن استثمارات أكثر استدامة. وقد
يكون الهدف الحالي من صياغة السياسات المالية مؤخرا هو العمل بجد لتقليل العجز،
ومن ثم التفرغ لصياغة سياسات مالية موائمة للوضع الاقتصادي بعد الوصول إلى حالة
استقرار مالي في الدولة.
كتابة: حميدة
بنت محمد بن صالح العجمية
6
أكتوبر 2021م
_________________
مراجع مهمة:
- الاقتصاد العماني
في ظل الظروف العالمية، د. أدهم آل سعيد.
- www.arabictrader.com/ar/learn/forex-school/36 - ما-الفرق-بين-السياسة-المالية-والسياسة-النقدية-؟
- السياسات الكلية
وإشكالات النمو في الدول العربية، إعداد: الأستاذ/ عامر ذياب التميمي، تحرير: الدكتور/
مصطفى بابكر.
تعليقات
إرسال تعليق