الحدس وصناعة السلوك المالي
قامت العديد من الدراسات بالبحث عن طبيعة النفس البشرية وسلوكها، وكيف
تؤثر بدورها على تفكير الإنسان وحياته، خصوصا حينما يتعلق الأمر بالقرارات
المالية، نجد أن البعض يدّخر لأنه يطمح لشراء سيارة أو بيت، فهو يميل لأن يعيش
نوعا من التنازل عن مستوى رفاهية معين، لأجل الوصول إلى ذلك البيت أو السيارة.
ونجد البعض يستهلك المال ويسرفه، ربما لأنه ثري، ولكن الثراء ليس دائما مصدر
الإسراف، وإنما حتى أولئك الذين لا يملكون خطة لمصاريفهم ونفقاتهم ولا أسلوب حياة
واضح يقومون بالإنفاق العشوائي، وبالتالي استهلاك التمويل لديهم.
عموما، يرغب البشر بالحصول على رفاهية أعلى، مما يغذي شعور الرغبة
بالحصول على المزيد كل مرة، وهو سبب شعورنا بالحاجة للمزيد من المال. هكذا نبدأ
بالأساسيات، ثم الكماليات، ثم الأشياء غير المهمة التي لا تضيف قيمة كبيرة، ولكنها
-من الناحية النفسية- تبدو مهمة؛ لأن شعور الإنسان النفسي يغذي عقله بأفكار مستمرة
حولها.
لنتحدث بشكل أوسع، في النظريات المالية، يقوم مصطلح (Behavioral finance) على دراسة الحالة
النفسية العامة للمستثمرين وتأثيرها على السوق أو البورصة. في البداية، لم يُمكن
أن تُـفَسّر هذه الظاهرة بالحسابات أو البيانات، لكن مع وجود بعض الاستثناءات في
فترات عمل السوق، وجد المحللون زيادة موسمية ملحوظة في أسعار الأسهم خلال شهر يناير، وهذا يسمى بـتأثير يناير (January-effect)، ويرجّح المحللون هذا الارتفاع إلى زيادة في الشراء
تأتي في أعقاب انخفاض سعر السهم، الذي يحدث عادة في ديسمبر عندما يدفع المستثمرون حصاد
الضرائب لتعويض مكاسب رأس المال المحقق. وهناك تفسير آخر محتمل، هو أن المستثمرين يستخدمون
مكافآتهم النقدية نهاية العام لشراء الاستثمارات في بداية السنة القادمة.
إضافة إلى ذلك تميل أسعار
الأسهم للارتفاع والانخفاض في حالة تفشي إشاعة أو خبر سواء كان صحيحا أم لا، على
سبيل المثال: في حالة انتشار خبر جيد عن شركة ما، فإن المستثمرين يميلون لشراء أسهم
في تلك الشركة، وبطبيعة الحال هذا يرفع قيمتها، لكن إذا حدث وانتشر خبر سيء عنها،
فإن كل ذلك بإمكانه أن ينهار في اللحظة التي يبع فيها المستثمرون أسهمهم، مؤديا
إلى خسارة كبيرة. بهذا يستطيع المستثمرون بحدسهم وتوقعاتهم صناعة السوق والتفوق
عليه، أو هدمه.
كان جون مينارد كينز بنفسه يثق بحدسه، حيث اعتبر الحدس -لا التجربة
الحسية- أساس المعرفة. وكانت الفلسفة تحتل المقام الأول بالنسبة له، حتى قبل
الاقتصاد، والكثير من أفكاره وآرائه تحركها دوافع فلسفية في الأساس، فقد كان يرى
في حين كون المستقبل مجهولا، ينبغي أن يعتمد المرء على الحدس؛ بوضع احتمالات أقل
حدوثا وأخرى أكثر قابلية للحدوث. وهذا أيضا مضمّن في نظريته (نظرية الدخل) التي
تنص على أن الزيادة في الدخل تقابلها زيادة في الاستهلاك، ولكن الإنسان لن يستهلك
الزيادة كاملة؛ لأن حدسه يخبره أن المستقبل غير واضح، فهو بحاجة للادخار تجنبا
لوقوع أي حدث يتطلب تمويلا عاجلا.
لاحظوا أن كل ما تحدثنا عنه في الأعلى قد لا يمكن عرضه بالأرقام
والحسابات، لكنه منطقي جدا حينما نميل لدراسته من جانب علم النفس السلوكي وعلم
الاجتماع. ومن الفكرة ذاتها، ظهر أيضا علم الاقتصاد السلوكي (Behavioral economics) على السطح مؤخرا، وهو دراسة خطوات عملية
صنع القرار التي يتخذها الأفراد والشركات، ويمثل هذا النوع من الاقتصادات توجها جديدا
تتبناه العديد من الدول والمؤسسات حول العالم. وكما ذكرنا سابقا، أن كل هذه الأمور
تؤثر بطريقة ما على صناعة الاقتصاد والسوق. دعونا نأخذ مثالا: بعد انتشار الاقتصاد
السلوكي وتطبيقاته، استطاعت العديد من الشركات أن تحقق مكاسب مرتفعة، فقط باستخدام
حيل ذكية في الاقتصاد السلوكي. كأن تقوم شركة ما بطرح منتج بسعر معين، ثم تقوم
بتخفيض 30% من السعر. هذا يعطي انطباعا للمشترين أن السعر الآن أرخص من السابق،
لكن في الأساس، السعر المخفّض لا يزال يحقق للشركة الأرباح. إنها فقط حيلة كي
يعتقد المشترون أن الثمن يقل، ولكنه في الحقيقة -مع كونه مخفضا بنسبة 30%- قد يكون
سعر المنتج الأساسي الذي ينبغي أن يُسعّر به!
في النهاية، ينظر كل طرف إلى السلوك المالي والاقتصاد السلوكي من جانبه، فالموردون يرغبون برفع أرباحهم، والمشترون يرغبون بالحصول على أسعار أقل. هذا يرجعنا لتذكّر مبدأ الندرة، الذي ينص على أن الحياة بها موارد محدودة، لذا ينبغي على الإنسان أن يقرر أيها يختار؛ ليحصل على أكبر فائدة، لا أن يتعب نفسه بالرغبة للحصول عليها جميعا، لأنه لن يستطيع استخدامها مجتمعة بكفاءة أبدا.
كتابة: حميدة
بنت محمد بن صالح العجمية
3 سبتمبر 2021م
_________________
مراجع مهمة:
-
https://www.investopedia.com/terms/j/januaryeffect.asp
-
/المفاهيم-الإدارية/التمويل-السلوكي/ https://hbrarabic.com/
-
سلسلة مقدمات
قصيرة جدا، كتاب: جون مينارد كينز، مؤسسة هنداوي
-
https://www.argaam.com/ar/article/articledetail/id/574264
تعليقات
إرسال تعليق