مفارقة الازدهار

 مرحبا يا أصدقاء، عدنا مجددا للكتابة في مدونة موازنة بعد انقطاع طويل، وأكتب لكم اليوم ملخصا بسيطا حول كتاب (The Prosperity Paradox) أو مفارقة الازدهار إذا ما ترجمناها للغة العربية، وهو هدية أعتز بها من شخص لطالما تعلمت منه الكثير.

في  هذا الكتاب المكون من 344 صفحة، والذي لا أزال في الفصل الأول منه حاليا، وأنا أكتب لكم هذا الملخص، شدني ما كُتِبَ في المقدمة، حول رغبة الكتاب مع الكتّاب الفرعيين في إحداث تغيير مهم وملموس، خصوصا حول تحديات الفقر في بعض دول العالم. الكتابة عن التنمية الاقتصادية قد تبدو سهلة، لكن تطبيقها يحتاج إلى شجاعة كبيرة، خصوصا كشجاعة Mo Ibrahim الذي قرر اتخاذ خطوة أولى نحو صناعة تغيير حقيقي لمحاربة الفقر والمستوى المعيشي المتدني في الدول الفقيرة.

في البداية، يتحدث الكتاب عن مقدرة الابتكار (Innovation) على حل مشاكل الفقر والعوز في الدول الفقيرة، ولنأخذ بعض دول أفريقيا كأمثلة: الكونغو، وأوغندا، وغيرهم. الدول التي مهما عمل الناس فيها جاهدين على تحسين مستوى حياتهم، فإنه من الصعب أن يتغير، ويظل ذلك المستوى في أغلب الأحيان تحت  خط الفقر. ثم يسترسل في إيضاح أن الازدهار لا يوجد بالضرورة في الدول الغنية، وهناك فرق بين الغنى والثراء، وبين الازدهار، فهناك الكثير من الدول الغنية، لكنها ليست بالضرورة مزدهرة ومستدامة، خصوصا تلك التي تعتمد على المصادر الطبيعية كمصدر للدخل.

في الماضي، كانت الولايات المتحدة الأمريكية مغمورة بالفساد والجرائم والإدارة الفوضوية، ومع ذلك،  استطاعت تخطي هذه التحديات، لتكون رائدة في الابتكار، وريادة الأعمال، وتملك أعلى مستويات الدخل في بعض القطاعات. السؤال الآن: كيف حدث هذا التغيير؟

لنوضح أولا معنى الازدهار الذي يدرسه الكتاب في الدول الفقيرة كأنموذج، الذي قد يظنه الكثيرون هو الوصول إلى مصادر التعليم، وتوفر الرعاية الصحية، وخدمات الأمن والسلامة، مع  الحفاظ على أداء مؤسسي وحكومي نزيه وواضح. بالرغم من أن هذه الأمور مهمة للرفاه البشري، إلا أن تعريف الازدهار في هذا السياق هو القدرة على مساعدة الدول الفقيرة ورواد الأعمال على الاستثمار لحل مشاكل العوز والفقر، والتي ستمكن المزيد من الناس في المنطقة لتحسين وضعهم الاجتماعي، والاقتصادي، واستقرارهم السياسي.

في أواخر عام 1990م، قام Mo Ibrahim وهو المدير الفني السابق لشركة British Telecom، بمحاولة إقناع عدد من المستثمرين ورواد الأعمال بفكرة إنشاء محطة اتصال في أفريقيا، لكن لم يتشجع أحد للبدء بفكرة كهذه، نظرا للمواصفات التي يتمتع بها المجتمع الأفريقي، وعدم جاهزية الموقع، ناهيك عن حجم المخاطرة. ففي ذلك الوقت في الدول المستفيدة من الاستثمار، كان يعيش حوالي 1 مليار نسمة في مساحة تزيد عن 11.7 مليون متر مربع، وهو ما يعادل 3 مرات حجم الولايات المتحدة الأمريكية. لذا وُصِفَ هذا الاستثمار وقتها بالمستحيل.

بالنسبة لـ Mo Ibrahim، كانت الفرصة أكبر من التحدي، حتى عندما حاول إيجاد التمويل من خلال الاقتراض، رفضت  البنوك ذلك، رغم عرضه لهيكلة المشروع الذي يرغب ببدءه، ومدى جدواه والعائد الذي سيصنعه. فقام بتمويل هذا المشروع عن طريق الأسهم (Equity) باستخدام ماله الخاص، كما استخدم موارده الخاصة لدعم فكرته، حتى أنه استخدم هليكوبتر لنقل المعدات؛ لعدم توفر طرق سالكة. ثم عمل على توفير التدريب والمعرفة والخدمات الصحية اللازمة للعمال الذين سيعملون في هذا المشروع، وكان دافعه الرئيس هو توفير سهولة التواصل للبشر في هذه المنطقة، وتعزيز مستوى حياتهم. ففي السابق، كان يتطلب الأمر رحلة 7 أيام لإيصال رسالة ابن إلى أمه، بينما الآن مع محطة  الاتصالات، أصبح الأمر كله ضغطة زر.

خلال 6 سنوات، بدأت الأعمال التشغيلية في حوالي 30 دولة أفريقية، مثل أوغندا، والكونغو،  وملاوي، ...، وحصل هذا المشروع على ما يقارب 5.2 مليون مستخدم في عام 2004م، حيث لم يتوقع أحد أن يصطف الناس بالمئات في طوابير للحصول على هواتف وشرائح الاتصال، كما حرص على تقديم خدمات الدفع المسبق الزهيدة، التي ستشجع على مزيد من الاستخدام مع مرور الوقت. وصلت أرباح هذا الاستثمار إلى 614 مليون دولار أمريكي، كما وصل صافي الربح إلى 147 مليون دولار أمريكي. وفي عام 2005م، قرر Mo Ibrahim بيع الشركة بعدما وصلت قيمتها السوقية إلى 3.4 مليار دولار أمريكي.

بشكل عام، ساعد هذا الاستثمار على تطور شركات الاتصال بتوفير 965 مليون هاتف، كما أسهم بإنعاش حركة المال في السوق. في عام 2020م، استطاع قطاع الاتصالات في الدول الأفريقية توفير 4.5 مليون وظيفة، أغلبها يشغلها السكان الأفريقيون المحليون، كما أصبحت مساهمة قطاع الاتصالات حوالي 214 مليار دولار أمريكي كقيمة مضافة في الاقتصاد الأفريقي.

خلاصة هذه القصة، أن الطريق إلى الازدهار ياتي من خلال تحديد العوامل المؤثرة (Critical Drivers) لاستدامة هذا الازدهار، مثل إيجاد الفرص في الأزمات، والاستثمار في خلق وتعزيز الأسواق التي تخلق فرص العمل وتحسن من حركة النقد في السوق. لذا فالازدهار الحقيقي هو إحسان استخدام الموارد (المال، القوى العاملة، المعلومات، ...) لصناعة خدمات ومنتجات تضيف قيمة حقيقية للاقتصادات.


حميدة

1 يناير 2025م

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

هل سيكفي الغذاء العالم في 2022؟

الحدس وصناعة السلوك المالي