ميزانية الدولة: التخطيط والواقع (دليل عملي)

مرحبا يا أصدقاء! شكرا لقرائتكم تدوينات موازنة الشهرية. كنتُ أفكر كثيرا في الكيفية التي يجب أن أكتب بها تدوينة هذا الشهر، وخطر على بالي أن أكتب دليلا عمليّا مبسّطا يحوي تحليلا سلسًا لفهم الميزانية العامة للدولة وقرائتها، والتي تصدرها وزارة المالية سنويا، في محاولة لتوقّع الأداء المالي للسنة القادمة، ومحاولة ضبط الإيرادات والمصروفات الفعلية حسب المخطط له.

سنستعين في هذه التجربة العملية بميزانية الدولة لعام 2021م، والتي توجد في موقع وزارة المالية. أولا، وبطبيعة الحال، يحتاج كل فرد إلى مصدر دخل يموّل نفقاته العامة، وبناء على ذلك يقوم بترتيب مصروفاته وأولوياته، فإن وجد لنفسه فائضا، فهو إما يدّخره أو يستثمره، وربما يستهلكه. وإن كانت مصروفاته أكبر من دخله، فإنه يتعين عليه أن يحرم نفسه من بعض الأشياء، أو يجد تمويلا إضافيا، أو يستقرض. الأمر نفسه ينطبق على الدولة وميزانيتها، لكننا هنا نتحدث عن أرقام ومسؤولية أكبر، وعن أكثر من مصدر دخل ومصدر إنفاق.

في الصفحة 55 من دليل قراءة الميزانية، نجد جدولا يضع المختصر المفيد من الأرقام والإحصائيات التي نحتاجها، لذلك لا داعي لقراءة تفصيل الميزانية كاملا، ولنركز هنا على ثلاثة أقسام رئيسة، وهي: إجمالي الإيرادات العامة، وإجمالي الإنفاق، والفائض/العجز. وهي أهم مكونات الموازنة التي نحتاج لفهمها، ثم سنتدرج بعدها للتفاصيل.

§         إجمالي الإيرادات العامة

الإيرادات العامة هي كل ما نحصل عليه جرّاء بيعنا للمنتجات وتقديمنا للخدمات، وبعد تحصيلها جميعا من كل المؤسسات، تصبح في مجملها ما سنستخدمه للصرف والتخطيط المالي، أي ببساطة مصدر دخلنا في البلاد. قُـدِّرت إيرادات الدولة في 2021م لتكون 8.6 مليار ريال عماني من مصدرين، أولهما النفط والغاز وشكّل 63% من الإيرادات، والآخر مما عدا ذلك (إيرادات جارية، إيرادات رأسمالية، استردادات رأسمالية) بنسبة 37%، مع الوضع في عين الاعتبار أنه تم تضمين الإيرادات الضريبية ضمن الإيرادات غير النفطية بنسبة 51%. أي إن إيرادات الضرائب تشكل نصف الإيرادات غير النفطية تقريبا.

بالنظر إلى جداول الميزانية العامة للدولة للسنة المالية 2021م، وهي أيضا متوفرة في موقع وزارة المالية، نجد في تفصيل الإيرادات، أن النفط وحده يرفد الإيرادات بقرابة 3.5 مليار ريال عماني، أي ما نسبته 40.7% من الإيرادات التي ذكرناها سابقا (8.6 مليار ريال عماني)، وهي نسبة كبيرة حينما تضيف عليها إيرادات الغاز أيضا، الأمر الذي يجعلنا تحت ضغط كبير جرّاء تقلبات أسعارهما إن مضت للأسوأ. ثم تأتي الإيرادات غير النفطية لترفد الميزانية بنسبة ضئيلة كما ذكر في الأعلى، قادمة من المؤسسات الحكومية في الدولة. وبطبيعة الحال، فإن هذه المؤسسات خدمية وتقدم خدمات مدعومة، لذلك من الطبيعي أن تكون إيراداتها أقل. على سبيل المثال، تأتي بعض الإيرادات غير النفطية من بيع مساكن اجتماعية ومبانٍ وأراضٍ حكومية، أو من استردادات القروض الحكومية.

§         إجمالي الإنفاق

أو (الإنفاق العام)، وهي جملة المصروفات التي تحددها الدولة حسب ميزانية كل قطاع ووزارة، وتذهب للعمليات التشغيلية والإنمائية وسداد المستحقات المالية. بالنسبة للمصروفات فإن لدينا ثلاث أقسام رئيسة محددة في جداول الميزانية العامة، وهي: (جملة المصروفات الجارية) بقيمة 9 مليار ريال عماني تقريبا، مخصصة للدفاع والأمن، وللوزارات المدنية، وشراء النفط والغاز، وخدمة الدين العام. وتشكل هذه المصروفات 82.9% من الإنفاق الكلي البالغ 10,880 مليار ريال عماني، أي قرابة 11 مليار ريال عماني. والجدير بالذكر أن في أغلب الأحيان -إن لم يكن في جميعها- تذهب أكثر النفقات على الرواتب في المؤسسات الحكومية، وهذا ما أتى تفصيله في الميزانية العامة، حيث شكلت مصروفات بند الرواتب ومستحقات الموظفين في المؤسسات الحكومية حوالي 80% من أصل 4.1 مليار ريال تم تقديره لهذا البند. وكذلك أيضا يتم تخصيص جزء كبير من المصروفات لدعم التعليم والصحة والإسكان والضمان الاجتماعي بنسبة 40%. ثم القسم الثاني (جملة المصروفات الاستثمارية) بقيمة 900 مليون ريال عماني، وتذهب هذه الأموال لتطوير مؤسسات الخدمات العامة والوزارات المدنية وتحسين خدماتها. ثم القسم الثالث (جملة المساهمات والنفقات الأخرى) بقيمة 960 مليون ريال عماني، تذهب بشكل عام للمساهمات والدعم الحكومي. وهناك مؤسسات مستقلة في الدولة لا يتم تمويلها من الميزانية العامة للدولة مثل مؤسسات القطاع الخاص.

§         العجز/الفائض

في النهاية، بعد تحصيل المجموع، بإمكاننا بكل سهولة أن نطرح المصروفات من الإيرادات، فإن كانت الإيرادات أكبر فنحن في (فائض) يمكننا استخدامه لتمويل مؤسسات الدولة وزيادة رفاهية المواطنين، كما يمكن استثماره في الأجهزة الاستثمارية والصناديق السيادية أو حتى خارج الدولة، بما يضمن الحفاظ عليه وعلى قيمته، أو مراكمتها. وفي الجانب الآخر، إن كانت المصروفات أكبر من الإيرادات، فإننا في (عجز) مالي، وهذا ما تم تقديره في الميزانية العامة بقيمة 2.2 مليار ريال عماني تقريبا. وبطبيعة الحال يجب أن يُموّل هذا العجز عاجلا أم آجلا، لذلك تضع الحكومة خططا واضحة تمكنها من سداد هذا العجز. فتم الإقرار على اقتراض 1.6 مليار ريال عماني من البنوك الخارجية والمحلية عن طريق السندات، على أن تكون نسبة الاقتراض من البنوك المحلية أقل؛ كي لا تضر بالسيولة والتدفق النقدي في الاقتصاد الوطني، فمن المهم المحافظة على وجود السيولة والنقد في البنوك المحلية، التي تعتبر وسيطا لدوران النقد بين المؤسسات والأفراد. وأيضا سحب 600 مليون ريال عماني من الاحتياطيات، وبالعادة تكون هذه الاحتياطيات من الصناديق السيادية وأجهزة الاستثمار الحكومية الخاصة بالدولة، وهي صناديق بناء المستقبل وتأمين الثروة للأجيال القادمة. وهنا أقف قليلا على موضوع الثروة السيادية وصناديقها، لأنها في دول الخليج أصبحت تستخدم لسد النقص من تذبذبات أسعار النفط التي قد تخذلهم لعدة أسباب، ومع ذلك لم تنجح الصناديق السيادية في سد العجوزات بشكل كامل، وقد يكون نجاحا جزئيا في تعويض التذبذبات؛ لأننا لا نستطيع توقع أسعار النفط بوضوح. إلى جانب ذلك، ظهرت العديد من النقاشات حول أن الصناديق السيادية الخليجية ستعاون دولها إلى ما بعد النفط، فقد تكون بديلا مستقبلا، خصوصا إذا ركزت على قطاعات البيئة والاستدامة والطاقة النظيفة. لكن بالنظر إلى الاعتماد على النفط وعوائده حاليا وأحجام هذه الصناديق، لا نستطيع عدها بديلا شاملا لتحل محل عوائد النفط، حيث إنها لا تتساوي حتى مع الإيرادات النفطية بالرغم من أنها كانت تحتوي على احتياطيات أكبر من الناتج المحلي، لكن تراكم العجز أفقد هذه الصناديق قدرتها على أن تكون بديلا.

 

بعدما مررنا على أقسام الميزانية العامة للدولة بالتفصيل، أصبحنا قادرين على تكوين نظرة واضحة عن اقتصادنا الوطني، بل إن قراءة مستند الميزانية العامة للدولة وجداولها أصبح أسهل بكثير من ذي قبل. وبناء على ذلك، نستخلص من قراءة المستند أننا نواجه عجزا ماليا؛ لعدة أسباب، قد تكون قلة كفاءة الإدارة المالية وعدم موائمتها لأساليب الإدارة الحديثة، والضغط على الأجهزة الحكومية ومؤسسات الدولة، وجائحة كورونا، وانخفاض أسعار النفط، ...

ولإدارة هذا العجز وتقليله، لابد من خطوات عملية ملموسة، وهذا ما قامت به الدولة عن طريق إنشاء خطة التوازن المالي متوسطة الأمد 2020-2024، والتي أذكر منها هنا جهود الدولة لتنويع الإيرادات الحكومية وتنشيطها، لأن تقليل الإنفاق الحكومي قد لا يكون السبب الرئيس للنهوض بالرفاه المجتمعي، على عكس تنويع الإيرادات الذي يخلق مصادر ربح أخرى، وكما ورد في الصفحة 24 من دليل الخطة، أولها: تعزيز عوائد الاستثمارات الحكومية، من خلال إنشاء جهاز الاستثمار العماني، الذي يملك جميع أصول صندوق الاحتياطي العام للدولة، وصندوق عُمان للاستثمار، والشركات والاستثمارات الحكومية، وذلك توحيدا للرؤى الاستثمارية في إدارة الاستثمارات الحكومية ومتابعتها، وتطوير حوكمة الاستثمارات. ثانيا: من خلال تحسين إدارة الضرائب والتحصيل الضريبي، وذلك بإنشاء جهاز الضرائب وإعطائه استقلاليته المالية والإدارية، الأمر الذي يساعده على تسريع عملية التسجيل الضريبي وتحصيل الضرائب. ثالثا: تطبيق ضريبة القيمة المضافة، ودراسة تأثيراتها الاقتصادية والاجتماعية، وإعفاء الكثير من السلع والخدمات منها، كالتعليم والصحة على سبيل المثال لا الحصر. رابعا: تطبيق ضريبة الدخل على أصحاب الدخل المرتفع، ولكن لم يتم تطبيق ذلك بعد لأنها قيد الدراسة، ومن المتوقع تطبيقها في 2022م إن تمت الدراسات.

 

بوصولنا إلى هنا، نكون أنهينا جزئية التخطيط والتوقعات، لكن ماذا عن الواقع والسنة المالية 2021م؟ بعد ظهور خطة التوازن المالي متوسطة المدى ووضوح الجهود المركزة للإدارة المالية، رفعت وكالة (ستاندرد آند بورز) للتصنيفات الائتمانية العالمية التصنيف الائتماني للسلطنة ليصل إلى (B+/B) مع توقع مستقبل اقتصادي أكثر استقرارا، وبلغت الإيرادات المالية الضريبية حوالي 461 مليون ريال عماني حتى شهر مايو، وأصبحت الإدارة الحكومية أكثر موائمة لأساليب الإدارة الحديثة عن طريق ترشيق مؤسسات الدولة وتفعيل الحوكمة ودمج المؤسسات والصناديق بما يعزز الرؤى الوطنية، وتنظيم المصروفات وإعادة جدولتها. في الجانب المقابل لهذه الإنجازات كان هناك من تضرر من الإجراءات، من خلال رفع جزء من الدعم، وفرض الضرائب، وارتفاع الأسعار. لكن يؤمل بنهاية خطة التوازن أن نكون أكثر كفاءة وقدرة على سد العجز المتراكم، ومنها نكمل معا العمل على اقتصاد أكثر استدامة ومرونة.

 

كتابة: حميدة بنت محمد بن صالح العجمية

7 أغسطس 2021م

_________________

مراجع مهمة:

-          مستند خطة التوازن المالي متوسطة المدى 2020-2024م، وزارة المالية

-          الميزانية العامة للدولة 2021م، وزارة المالية

-          جداول الميزانية العامة للدولة للسنة المالية 2021م، وزارة المالية

-          محور صناديق الثروة السيادية والسياسات الاستثمارية لدول مجلس التعاون لدول الخليج العربية، منتدى دراسات الخليج والجزيرة العربية - الدورة السابعة (29 نوفمبر – 3 ديسمبر 2020)، اليوتيوب


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

مفارقة الازدهار

هل سيكفي الغذاء العالم في 2022؟

الحدس وصناعة السلوك المالي